سورة الأنعام - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}
{الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية.
قال مقاتل: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم من ربك؟ قال: الذي خلق السماوات والأرض فكذبوه فأنزل اللّه عز وجل حامداً نفسه دالاّ بصفته على وجوده وتوحيده. {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات} في يومين: يوم الأحد ويوم الأثنين {الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء {وَجَعَلَ الظلمات والنور} قال السدي: يعني ظلمة الليل ونور النهار.
وقال الواقدي: كل ما في القرآن من الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان.
وقال قتادة: يعني الجنة والنار وإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى.
وقال أهل المعاني: جعل هاهنا صلة والعرب تريد جعل في الكلام.
وقال أبو عبيدة: وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والواحد إثنين لمّا هدَّني الكبر مجاز الآية: الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وقيل: معناه خلق السماوات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق الظلمة والنور قبل خلق السماوات والأرض.
وقال قتادة: خلق اللّه السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار.
وقال وهب: أول ما خلق اللّه مكاناً مظلماً ثم خلق جوهرة فصارت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظر الهيئة فصارت دماً فارتفع بخارها وزبدها، فخلق من البخار السماوات ومن الزبد الأرضين.
وروى عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه يومئذ من ذلك النور إهتدى ومن أخطأه ضلّ» {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
قال قطرب: هو مختصر يعني الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون الأوثان أي يشركون وأصله من مساواة الشيء بالشيء يقال: عدلت هذا بهذا إذا ساويته به.
وقال النضر بن شميل: الباء في قوله: {بِرَبِّهِمْ} بمعنى عن، وقوله: {يَعْدِلُونَ} من العدول. أي يكون ويعرفون.
وأنشد:
وسائلة بثعلبة بن سير *** وقد علقت بثعلبة العلوق
وأنشد:
شرين بماء البحر ثم ترفعت *** متى لجج خضر لهن نئيج
أي من البحر قال اللّه تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] أي منها.
محمد بن المعافى عن أبي صالح عن ابن عباس قال: فتح أول الخلق بالحمد لله، فقال: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} وختم بالحمد، فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [الزمر: 75].
حماد عن عبد اللّه بن الحرث عن وهب قال: فتح اللّه التوراة بالحمد فقال: الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض وختمها بالحمد فقال: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الإسراء: 111] الآية. قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} [الأنعام: 2] يعني آدم عليه السلام فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده.
وقال السدي: بعث اللّه جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطينة منها فقالت الأرض: إني أعوذ باللّه منك أن تنقص مني فرجع ولم يأخذ، وقال: يا ربّ إنها عاذت بك، فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه باللّه فقال: أنا أعوذ باللّه أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط التربة الحمر والسودا والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والمالح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال اللّه عز وجل لملك الموت رَحِمَ جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللّه خلق آدم من تراب جعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأً مسنوناً خلقه وصوّره ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار فكان ابليس يمرّ به فيقول خلقت لأمر عظيم ثم نفخ اللّه فيه روحه» {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ}.
قال الحسن وقتادة والضحاك: الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: ثم قضى أجلاً يعني أجل الدنيا وأجل مسمىً عنده وهو الآخرة.
عطية عن ابن عباس: ثم قضى أجلاً هو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} هو أجل موت الإنسان. ثم قضى أجلاً يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها لا تجاوزونها، وأجل مسمى يعني وهو أجل مسمى عنده لا يعلمه غيره، الأجل المسمى هو الأجل الآجل.
{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} تشكون في البعث {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} يعني وهو إله السماوات وإله الأرض.
مقاتل: يعلم سر أعمالكم وجهرها، قال: وسمعنا أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد، محمد بن أحمد البلخي يقول: هو من مقاديم الكلام وتقديره وهو اللّه يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض فلا يخفى عليه شيء {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} تعملون من الخير والشر {وَمَا تَأْتِيهِم} يعنى كفار أهل مكّة {مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} مثل انشقاق القمر وغيره {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لها تاركين وبها مكذبين {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق} يعني القرآن وقيل: محمد عليه الصلاة والسلام {لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم فحاق بهم هذا الوعيد يوم يرونه {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} يعني الأمم الماضية والقرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل: القرن مدة من الزمان، يقال ثمانون سنة، ويقال: مائة سنة، ويكون معناه على هذا القول من أهل قرن {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} يعني أعطيناهم ما لم نعطكم.
قال ابن عباس: أمهلناهم في العمر والأجسام والأولاد مثل قوم نوح وعاد وثمود، ويقال: مكنته ومكنت له فجاء [......] جميعاً {وَأَرْسَلْنَا السمآء} يعني المطر {عَلَيْهِم مِّدْرَاراً}.
تقول العرب: مازلنا نطأ السماء حتى آتيناكم مدراراً أي غزيرة كثيرة دائمة، وهي مفعال من الدر، مفعال من أسماء المبالغة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
قال الشاعر:
وسقاك من نوء الثريا مزنة *** سعراً تحلب وابلاً مدراراً
وقوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} من خطاب التنوين كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22].
وقال أهل البصرة: أخبر عنهم بقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ} وفيهم محمد وأصحابه ثم خاطبهم، والعرب تقول: قلت لعبد اللّه ما أكرمه وقلت لعبد اللّه أكرمك {وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا} وخلقنا وابتدأنا {مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً} الآية.
وقال الكلبي ومقاتل: أنزلت في النضر بن الحرث وعبدالله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند اللّه وأنك رسول فأنزل اللّه عز وجل فلو نزلنا عليك كتاباً {فِي قِرْطَاسٍ} في صحيفة مكتوباً من عند الله {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} عاينوه معاينة ومسوه بأيديهم {لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} لما سبق فيهم من علمي {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ} على محمد {مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} أي لوجب العذاب وفرغ من هلاكهم لأن الملائكة لا ينزلون إلاّ بالوحي والحلال {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} الكافرون ولا يمهلون.
قال مجاهد: لقضي الأمر أي لقامت الساعة.
وقال الضحاك: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا.
وقال قتادة: لو أنزلنا المكارم ولم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً} يعني ولو أرسلنا إليهم ملكاً {لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} يعني في صورة رجل آدمي لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة {وَلَلَبَسْنَا} ولشبهنا وخلطنا {عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرى أملك هو أم آدمي.
وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس: هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وكذبوا رسلهم وهو تحريف الكلام عن مواضعه فلبس اللّه عليهم ما لبسوا على أنفسهم.
وقال قتادة: ما لبس قوم على أنفسهم إلاّ لبس الله عليهم.
وقرأ الأزهري: وللبسنا بالتشديد على التكرير يقال: ألبست العرب ألبسه لبساً وإلتبس عليهم الأمر ألبسه لبساً {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيّه صلى الله عليه وسلم {فَحَاقَ}.
قال الربيع بن أنس: ترك. عطاء: أحل.
مقاتل: دار. الضحّاك: إحاطة.
قال الزجاج: الحيق في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه: يحيق المكر السيّئ.
وقيل: وجب. والحيق والحيوق الوجوب.
{بالذين سَخِرُواْ} هزئوا {مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}.
فحاق بالذين سخروا من المرسلين العذاب وتعجيل النقمة {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين {سِيرُواْ} سافروا في الأرض معتبرين {ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والكذب الهلاك والعذاب، يخوّف كفار أهل مكة عذاب الأمم الماضية {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} فإن أجابوك وإلاّ {قُل للَّهِ} يقول يفتنكم بعدد الأيام لا [.....] والأصنام ثم قال: {كَتَبَ} ربكم أي قضى وأوجب فضلاً وكرماً {على نَفْسِهِ الرحمة}.
وذكر النفس ها هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وحد وارتفاع الوسائط دونه وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وإخبار بإنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
هشام بن منبه قال: حدثنا أبو عروة عن محمد رسول صلى الله عليه وسلم قال: «لما قضى اللّه الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي».
وقال عمر لكعب الأحبار: ما أول شيء ابتدأه اللّه من خلقه؟ فقال كعب: كتب اللّه كتاباً لم يكتبه بقلم ولا مداد ولكنّه كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا سبقت رحمتي غضبي.
وقال سلمان وعبدالله بن عمر: إن للّه تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده.
ثم قال: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} اللام فهي لام القسم والنون نون التأكيد، مجازه: واللّه ليجمعنكم {إلى يَوْمِ القيامة} يعني في يوم القيامة إلى يعني في، وقيل: معناه ليجمعنكم في غيركم إلى يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ الذين خسروا} غلبوا على أنفسهم والتنوين في موضع نصب مردود على الكاف والنون من قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} ويجوز أن يكون رفعاً بالإبتداء وخبره فهم لا يؤمنون، فأخبر اللّه تعالى أن الجاحد للآخرة هالك خاسر.


{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)}
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} الآية.
قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إنا قد علمنا أنه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلاّ الحاجة، فنحن نجمع ذلك من أموالنا ما نغنيك حتى تكون من أغنانا فأنزل اللّه تعالى قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ} أي استقر {فِي الليل والنهار} من خلق.
قال أبو روحى: إن من الخلق ما يستقر نهاراً وينتشر ليلاً ومنها ما يستقر ليلاً وينتشر نهاراً. وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن جرير: كلّ ما طلعت عليه الشمس وغيبت فهو من ساكن الليل والنهار والمراد جميع ما في الأرض لأنه لا شيء من خلق اللّه عز وجل إلاّ هو ساكن في الليل والنهار، وقيل: معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار.
وقال أهل المعاني: في الآية لغتان واختصار مجازها: وله ما سكن وشرك في الليل والنهار كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والبرد وأراد في كل شيء {وَهُوَ السميع} لأصواتهم {العليم} بأسرارهم.
وقال الكلبي: يعني هو السميع لمقالة قريش العليم بمن يكسب رزقهم {قُلْ} يا محمد {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} رباً معبوداً وناصراً ومعيناً {فَاطِرِ السماوات والأرض} أي خالقها ومبدعها ومبدئها وأصل الفطر الشق ومنه فطر ناب الجمل إذا شقق وابتدأ بالخروج.
قال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني اعرابيان يختصمان في بعير. فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أنا أحدثتها {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} أي وهو يرزق ولا يرزق وإليه قوله عز وجل {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57].
وقرأ عكرمة والأعمش: ولا يَطعم بفتح الياء أي وهو يرزق ولا يأكل.
وقرأ أشهب العقيلي: وهو يُطعِم ولا يُطعَم كلاهما بضم الياء، وكسر العين.
قال الحسن بن الفضل: معناه هو القادر على الإطعام وترك الإطعام كقوله: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26].
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا منصور الأزهري بهراة يقول: معناه وهو يطعم ولا يستطعم، يقول العرب: أطعمت غيري بمعنى استطعمت.
وأنشد:
إنّا لنطعم من في الصيف مطعماً *** وفي الشتاء إذا لم يؤنس القرع
أي استطعمنا وقيل: معناه وهو يطعم يعني اللّه ولا يطعم يعني الولي {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أخلص {وَلاَ تَكُونَنَّ} يعني وقيل لي: ولا تكونن {مِنَ المشركين} {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} تعبدت غيره {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهو يوم القيامة.
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} يعني من يُصَرف الغضبُ عنه.
وقرأ أهل الكوفة: يصرف بفتح الياء وكسر الراء على معنى من صرف اللّه عنه العذاب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله: {من الله} بأن قبل فيما قبله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} [الأنعام: 12]، ولقوله فيما بعده {رَحِمَهُ} ولم يقل: فقد رحم، على الفعل المجهول.
ولقراءة أُبيّ: من يصرفه الله عنه. يعني يوم القيامة، وهو ظرف مبني على الخبر لإضافة الوقت إلى إذ كقولك: حينئذ وساعتئذ {فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفوز المبين} يعني نجاة البينة {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} بشدة وبلية وفقر ومرض {فَلاَ كَاشِفَ} دافع وصارف {لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} عافية ورخاء ونعمة {فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} من الخير والشر {قَدُيرٌ}.
روى شهاب بن حرش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها جهل بن شعر ثم أردفني خلفه وسار بي ملياً ثم احتنا لي وقال لي: يا غلام، قلت: لبيك يا رسول اللّه، قال: «إحفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده أمامك، تعرَّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فأسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه قد مضى القلم بما هو كائن فلو عمل الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك لما قدروا عليه ولو جهدوا أن ينصروك بما لم يكتب اللّه عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر فإن مع الكرب الفرج وإن مع العسر يسراً».
{وَهُوَ القاهر} القادر الغالب {فَوْقَ عِبَادِهِ} وفي القهر معنى زائد على القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد.
{وَهُوَ الحكيم} في أمره {الخبير} بما جاء من عباده.


{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} الآية.
قال الكلبي: أتى أهل مكة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما وجد اللّه رسولاً غيرك وما نرى أحداً يصدقك فيما تقول ولو سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول اللّه كما تزعم، فأنزل اللّه {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} فإن أجابوك وإلاّ فقل {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} على ما أقول {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ} وخوفكم يا أهل مكة {بِهِ وَمَن بَلَغَ} يعني ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم.
قال الفراء: والعرب تضمر الهاء في مصطلحات التشديد {من} و{ما} فيها وإن الذي أخذت مالك، ومالي أخذته، ومن أكرمت أبرّ به بمعنى أكرمته.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية من كتاب اللّه فإن من بلغته آية من كتاب اللّه فقد بلغه أمر اللّه أخذه أو تركه».
وقال الحسن بن صالح: سألت ليثاً: هل بقي أحد لم يبلغه الدعوة.
قال: كان مجاهد يقول حيثما يأتي القرآن فهو داع وهو نذير، ثم قرأ هذه الآية.
فقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له.
وقال محمد بن كعب القرضي: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً عليه السلام وسمع منه {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى} ولم يقل آخر والآلهة جمع لأن الجمع يلحق التأنيث كقوله تعالى: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} [طه: 51]. {قُل} يا محمد إن أشهدوكم أنتم {لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يعني التوراة والإنجيل {يَعْرِفُونَهُ} يعني محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} أي من الصبيان.
قال الكلبي: لما قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعبيد اللّه بن سلام: إن اللّه قد أنزل على نبيّه {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد اللّه: يا عمر قد عرفته فيكم حين رأيته بنعته وصفته كما أعرف إبني إذا رأيته مع الصبيان يلعب ولأنا أشدّ معرفة بمحمّد صلى الله عليه وسلم مني بإبني، قال: وكيف؟ قال: نعته اللّه عز وجل في كتابنا، فلا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك اللّه يا ابن سلام {أَبْنَآءَهُمُ الذين خسروا} غبنوا {أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وذلك إن لكل عبد منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل اللّه لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار {وَمَنْ أَظْلَمُ} أكفر.
قال الحسن: فلا أحد أظلم {مِمَّنِ افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً} فأشرك به غيره {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} يعني القرآن.
قال الحسن: كل ما في القرآن بآياتنا وآياته يعني به الدين بما فيه {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} الكافرون {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} العابدين والمعبودين {جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} إنما يشفع لكم عند ربكم {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} يعني قولهم وجوابهم، وقيل: معذرتهم، والفتنة: الاختبار، ولمّا كان سؤالهم يخبر به لإظهار ما في قلوبهم قيل: فتنة.
{إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وذلك إنهم يوم القيامة إذا رأوا مغفرة اللّه عز وجل وتجاوزه عن أهل التوحيد. قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد ويقولون {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فيقول اللّه تعالى لهم: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} وتدعون أنهم شركائي ثم نختم على أفواههم وتشهد جوارحهم عليهم بالكفر وذلك قوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ} زال وبطل {عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الأصنام {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآية، قال: إجتمع أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأُبي إبنا خلف والحرث بن عامر استمعوا حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: للنضر يا أبا فتيلة ما يقول محمد، قال: والذي جعلها بيته يعني الكعبة قال: ما أدري ما يقول إلاّ إنه يحرك لسانه ويقول: {أَسَاطِيرُ الأولين}، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كتب الحديث عن القرون وأخبارها.
فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول خفياً، فقال أبو جهل: كلا فأنزل اللّه تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وإلى كلامك {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} غشاوة وغطاء {أَن يَفْقَهُوهُ} يعلموه {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} ثقلاً وصماً {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} يعني حكاياتهم إسطورة وإسطارة.
وقال بعض أهل اللغة: هي التُّرَّهّات والأباطيل والبسابس وأصلها من سطرت أي كتبت {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}.
قال مقاتل: نزلت في أبي طالب وإسمه عبد مناف وذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب يدعو إلى الإسلام فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب:
واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسّد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذلك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت إنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت ثم سببا
وفرضت ديناً لا محالة إنه *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فأنزل اللّه تعالى {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي يمنعون الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويناؤن عنه أي يبتعدون عما جاء له من الهدي فلا يصدقونه وهذا قول القاسم بن محمد وعطاء ابن دينار وإحدى الروايتين عن ابن عباس وعن محمد بن الحنفية والسدي والضحّاك قالوا: نزلت في جملة كفار مكة يعني وهم ينهون الناس عن إتباع محمد والإيمان به ويتباعدون بأنفسهم عنه.
قال مجاهد: وهم ينهون عنه قريشاً ينهون عن الذكر ويتباعدون عنه.
وقال قتادة: وينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} لأن أوزار الذين يصدونهم عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} إنما كذلك {وَلَوْ ترى} يا محمد {إِذْ وُقِفُواْ} حبسوا {عَلَى النار} يعني في النار كقوله: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] يعني في ملك سليمان.
وقرأ السميقع {إِذْ وُقِفُواْ} بفتح الواو والقاف من الوقوف والقراءة الأولى على الوقف. فقال: وقفت بنفسي وقوفاً ووقفتم وقفاً، وجواب لو محذوف معناه لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجباً {فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} قرأه العامة ويكون بالرفع على معنى يا ليتنا نرد ونحوَ لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين أردنا أم لم نرد.
وقرأ ابن أبي إسحاق وحمزة: ولا نكذب وتكون نصباً على جواب التمني، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء.
وقرأ ابن عامر: نرد ولا نكذب: بالرفع، ونكون: بالنصب قال: لأنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين واخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردّوا إلى الدنيا {بَلْ بَدَا} ظهر {لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} يسترون في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم.
وقال السدي إنهم قالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فذلك إخفاؤهم {مِن قَبْلُ} فأنطق اللّه عز وجل جوارحهم فشهدت عليهم بما كتموا فذلك قوله عز وجل {بَلْ بَدَا لَهُمْ} وهذا أعجب إلي من القول الأول لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا إلاّ أن تجعل الآية في المنافقين.
قال المبرد: بدا لهم {جزاء ما كانوا يخفون من قبل}.
وقال النضر بن شميل: معناه بل بدا {لعنهم}، ثم قال: {وَلَوْ رُدُّواْ} إلى الدنيا {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من الكفر {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم: لو ردونا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8